وضع داكن
18-01-2025
Logo
الدرس : 13 - سورة النساء - تفسير الآيتان 29-30 الإنفاق وقوانين العناية الإلهية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

الأمر التكليفي:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث عشر من دروس سورة النساء، ومع الآية التاسعة والعشرين، وهي قوله تعالى: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمًا(29)﴾

[ سورة النساء ]

 أيها الإخوة، ماذا تفهمون من قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ ما من أمر تكليفي إلا ويبدأ في القرآن الكريم بـ: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ الله عز وجل يقول: 

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)﴾

[ سورة البقرة  ]

 ثم يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ افعلوا كذا وكذا، فكيف نُوفِّق بين قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وبين قوله تعالى: افعل ولا تفعل؟ فهناك أمر ونهي.

الإنسان مخير بكل الأدلة العقلية والنقلية والواقعية:


 أيها الإخوة، الإنسان مُخيَّر، مُخيَّر بكل الأدلة العقلية والنقلية والواقعية، ولكن مُخيَّر أن يدخل في دين الله أو ألا يدخل، فإذا دخل فهو مُلزَم بأوامرٍ ونواهٍ، كالطالب فهو مُخيَّر أن يدخل في الجامعة أو ألا يدخل، أما إذا دخل في الجامعة فثمة امتحان، ورسالة، ونظام، ودوام، ومُساءلة، وتوبيخ، وإنذار مُسجَّل، وتَرقين قَيدٍ، وفصل من الجامعة، فهناك أوامر، ونواهٍ، وعقوبات، لكن هذه كلها بعد أن تنتسب إلى الجامعة، لو أن الالتحاق بالجيش اختياري تطوّعي، فأنت مخير أن تلتحق أو ألا تلتحق، أما إذا التحقت فهناك نظام، ودوام، وتنفيذ الأمر، وهناك عقوبات، معنى ذلك الله عز وجل يأمر عباده الذين آمنوا به، أما الذي لم يؤمن فاختياره يعاقبه، الطالب مُخيَّر مثلاً أن يدرس أو لا يدرس، لو اختار ألا يدرس فسوف يجد بعد حين أن كل من حوله لهم مناصب مرموقة، لهم تجارات، لهم مكاتب، يحملون شهادات، لهم زوجات، لهم أولاد، لهم مكانة اجتماعية، وهو شارد في الطريق، فأحياناً الاختيار نفسه يعاقب صاحبه، أما أنت إذا آمنت بالله عز وجل فإنه يأمرك وينهاك: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ في الآيات السابقة تحدث الله جل جلاله عن العلاقات بالنساء، قضايا الزواج والطلاق، والقضايا المتعلقة بالمرأة، وغريزة الجنس غريزة متغلغلة في أعماق الإنسان، لذلك تجد آيات وأحاديث كثيرة فيها تنظيم دقيق لعلاقة الرجل بالمرأة، علاقة منظمة، ودائماً هناك عبارة أستخدمها "أصل التصميم" ، حينما خلق الله جل جلاله الأنثى صممها لتكون زوجة، أو أماً، أو أختاً، أو بنتاً، أو عمة، أو خالةً، وكلها علاقات مقدسة، فأصل التصميم أن تتزوج، وأن تنجب أولاداً يكونون من بعدك استمراراً لك، وتخليداً لذكراك، ينفعون الناس من بعدك، فكأن الله سبحانه وتعالى أرادك أن تتزوج ليكون لك عمل صالح مستمر بعد حياتك: 

(( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له. ))

[  أخرجه البخاري  ]


معظم البشر يتقاتلون من أجل المحدود بينما المؤمنون يسعون إلى اللا محدود:


 الله جل جلاله إذا قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ فهو يخاطب الذين آمنوا، يخاطب الذي اختاروا الإيمان، يخاطب الذين دخلوا في دين الله مختارين، حينما يؤمن الإنسان يؤمن مختاراً، فإذا آمن مختاراً فهناك مُوجبات للإيمان، واتباع، وائتمار، وانتهاء، وثواب، وعقاب، ومحفِّزات، ومثبِّطات، من المحفِّزات أن الله سبحانه وتعالى حبّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا، حينما يؤمن الإنسان، وحينما يصطلح مع الله يشعر براحة، يشعر أن جبالاً أُزِيحت عن كاهله، يشعر بتوازن، يشعر بالفلاح، بالنجاح، بالتفوق، يشعر أن المستقبل لصالحه، يشعر أن خطه البياني في صعود، يشعر أن الآخرة هي دار القرار، هي دار النعيم.
 معظم البشر يتنافسون على الصورة بينما المؤمنون يتنافسون على المخرج، معظم البشر يتقاتلون من أجل المحدود، بينما المؤمنون يسعون إلى اللا محدود، معظم البشر يتنافسون على حُطام الحياة الدنيا، بينما المؤمنون يتنافسون على جنة عرضها السماوات والأرض أُعِدَّت للمتقين.

(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ))

[  أخرجه البخاري  ]

 هذه الآخرة هي الحياة الحقيقية، والدنيا مهما عظُمت لا يمكن أن تكون عطاءً لأنه منقطع بالموت، ولا يليق بكرم الله أن يعطيك عطاءً ينتهي بالموت والله سبحانه وتعالى وصف الشاردين عنه قال: 

﴿ يَعْلَمُونَ ظَٰهِرًا مِّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلْآخِرَةِ هُمْ غَٰفِلُونَ(7)﴾

[  سورة الروم ]


الله تعالى أعطى الدنيا لمن لا يحب لكنه أعطى الحكمة والعلم لمن يحب:


 التنافس ينبغي أن يكون على المخرج، على اللا نهاية، على الأبد، لا أن يكون على الصورة، مهما عظُمت الدنيا لا شيء، والدليل أن الله سبحانه وتعالى أعطى الدنيا لمن لا يحب، فأعطاها لفرعون، وأعطاها لقارون، لكنه أعطى الحكمة والعلم لمن يحب. 

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ(14)﴾

[  سورة القصص ]

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾

[ سورة النساء ]

 إذاً حينما تقرأ قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ يجب أن تشعر أنك في عقدٍ إيماني مع الله، وأن هذا العقد الإيماني مع الله يقتضي الطاعة، وأن هذا العقد الإيماني مع الله يقتضي المؤاخذة، ويقتضي التأديب لذلك: 

﴿  أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾

[  سورة السجدة ]

﴿  أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾

[  سورة القلم ]

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَٰهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَٰقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَٰهُ مَتَٰعَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مِنَ ٱلْمُحْضَرِينَ(61)﴾

[ سورة القصص ]


التشريع الإسلامي في تسعة أعشاره يتعلق بالمال والنساء:


 قال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ انتقلنا من الشهوة الأولى وهي شهوة النساء إلى الشهوة الثانية وهي شهوة المال، ويكاد التشريع الإسلامي في تسعة أعشاره يتعلق بالمال والنساء، ومن كان مُحصَّناً ضد انزلاق مع امرأة، أو انزلاق في كسب المال أو إنفاقه فقد جمع الدين من أطرافه، فما من فضيحة على الإطلاق إلا في أحد موضوعين؛ فضحية مالية، أو فضيحة جنسية، ولا يسقط الرجال في العالم إلا بإحدى هاتين الفضيحتين، ومن فضل الله على المؤمنين أن المؤمن مُحصَّنٌ من هاتين النقطتين. 
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم﴾ الأكل يومي، وقد استُعير فعل الأكل لضمّ المال، يعني أصل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تأخذوا أموالاً ليست لكم، قال: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ﴾ لأن الأكل يومي، وهناك من يأكل أموال الناس بالباطل يومياً، الشيء الدقيق في هذه الآية أيها الإخوة، أنني حينما أخاطب إنساناً، وأقول له: لا تأكل مالك، فهذا كلام لا معنى له، إنه ماله، لو أن لك جيبَين، ووضعت مبلغاً في جَيب، ونقلته إلى جَيبٍ آخر ماذا فعلت؟ هذا مالك، لكن بلاغة القرآن تقول: هذا المال الذي نُهِيت عن أكله هو مال أخيك، وقد وُصِف بأنه مالك من زاوية واحدة؛ من زاوية الحفاظ عليه وكأنه مالك، فلأن تمتنع عن أكله بالباطل من باب أولى، ولا شيء يوضح هذه الحقيقة إلّا أنْ يقول أحد الناس إذا أعار مركبته لإنسان يرجوه أن يعتني بها يقول له: عُدّها سيارتك، من زاوية واحدة أن تعتني بها، ألا تُحمِّلها ما لا تطيق، ألا تهمل حاجاتها. 

للآية التالية عدة معانٍ:


 إذاً الله عز وجل يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم﴾ 

1 ـ مال أخيك هو مالك من زاوية وجوب الحفاظ عليه:

 مال أخيك هو مالك من زاوية وجوب الحفاظ عليه، لأن مال الإنسان يحافظ عليه، مرة وجدت في طريق وعرٍ جداً مركبة تسير بسرعة عالية، وكأنها تتكسّر بهذا الطريق، فعلمت أن سائقها لا يملكها، فلما وجدت مركبة أخرى تسير ببطء شديد علمت أن سائقها يملكها، فصرت أعرف ملكية السيارة من سرعتها.
 الإنسان يحافظ على ماله أشد المحافظة، فلذلك الله عز وجل قال: مال أخيك مالك، بمعنى أنك كيف تحافظ على مالك ينبغي أن تحافظ على مال أخيك.

2 ـ إذا قوي أخيك قويت معه وإن افتقر وجب عليك أن تعينه:

 المعنى الثاني أن هذا المال الذي هو مال أخيك هو مالك بمعنى آخر؛ إذا قوي أخيك قويت معه، وإن افتقر وجب عليك أن تعينه، هذا يحدث في المجتمعات الصغيرة، إنسان بلا عمل، بلا دخل، هذا الإنسان عِبْءٌ على من حوله، عبء معنوي، وعبء نفسي، أخ كريم بلا عمل، يحتاج إلى إنفاق، فإذا وجد عملاً، وكسِب مالاً يرتاح من حوله، كان عبئاً عليهم، فارتاحوا لراحته، وسعِدوا لاكتفائه، إذاً المجتمع الإسلامي مجتمع متعاون، فالذي يقوى في المؤمنين قوة واحد منهم قوة لجميع المؤمنين، وضعفُ واحد منهم إضعاف لجميع المؤمنين، فكلما حُلَّت مشكلة شاب في مجتمع معين، إخوانه وأصدقاؤه يرتاحون، لا أقول: يرتاحون منه، لكن يفرحون لكفايته، وترتاح نفوسهم لراحته: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ كأن هذا الأكل الذي نُهِي المسلمون عنه مُقيَّد بالباطل، هل هناك أكلُ أموالٍ بالحق؟ طبعاً أنت حينما تشتري بضاعة، وتسافر، وتتجشّم نفقات السفر، وتتخذ قراراً بالشراء، وربما لا يكون مصيباً وقد تخسر، وربما لا تربح، وقد تُتلَف البضاعة، وقد تحترق، وقد تفسد أحياناً، وقد لا تُباع بالسعر المناسب، فأنت ضمِنت أخطاراً كثيرة، فإذا جئت بهذه البضاعة، وبِعتها في محلٍّ صغير في حي من أحياء المسلمين، هذا المسلم ما تحمّل عبء السفر، ولا الاستيراد، ولا الضرائب، ولا التلَف، ولا الاحتراق، ولا أخطار النقل والشحن، ولا أخطار المنافسة العالية جداً، فلك أن تأكل من ماله ربحاً بالمعقول، فهذا أكلٌ بالمعقول، وهذا هو الربح الحلال.

لا يشرع الإسلام طريقة آمنة لكسب المال إلا إذا بنيت على منافع متبادلة:


 أيها الإخوة، هناك قاعدة كلية، أي علاقة مالية بين اثنين في دنيا المسلمين ينبغي أن تكون مبنيةً على منافع متبادلة، مثلاً أنا اشتريت هذه الحاجة بكمية صغيرة، وقد وصلت إلى بيتي بسعر معتدل فالذي اشتراها، وتحمّل مشاقَّ السفر، واختارها، وغامرَ بشرائها، وضمن أخطار النقل والشحن، وأخطار المنافسة، وأخطار التلف، وأخطار الفساد، ونقلها إليك بسعر معتدل فله أن يضيف على التكلفة ربحاً يعيش منه، أنا انتفعت، وهو انتفع، هذه علاقة البيع والشراء، إنسان معه مال، لكنه كبير في السن عاش حياته موظفاً، لا يحسن التجارة، أو امرأة توفي زوجها، وترك لها ميراثاً كيف تستثمره؟ أو طفل ورِث عن أبيه المتوفى مبلغاً كبيراً كيف يستثمره؟ إنسان معه مال لا يُحسِن استثماره، يأتي شاب متفتِّح، مخلِص، أمين، خبير، طاقة هائلة، لا يملك المال، فإذا أعطى صاحب المال ماله لهذا المُضارِب الخبير ينتفع كلاهما، هي منفعة متبادلة، إذاً شركات المضاربة منافع متبادلة، التجارة منافع متبادَلة، القاعدة الكلية في كسب المال، لا يُشرِّع الإسلام طريقة آمنة لكسب المال إلا إذا بُنِيت على منافع متبادلة، هذا أصلٌ من أصول كسب المال، منافع متبادلة، أما إذا جعلنا يانصيباً، فاليانصيب إنسان دفعَ وما أخذ شيئاً، وإنسان أخذ وما دفع إلا قليلاً، فاليانصيب لا يُبنى على منافع متبادلة، يُبنى نفعٌ على ضرر، الضرر متعدد، أي خمسمئة ألف إنسان اشتروا بطاقة، واحد ربح خمسين مليوناً، إنسان دفع وما أخذ، وإنسان أخذ وما دفع، القِمار مُحرَّم، لأنه مبنيّ على منفعة من طرف واحد، وهذه المنفعة مبنية على ضرر الآخرين، القمار مُحرّم، التأمين، شركة تعتمد على الاحتمالات الضئيلة، فإنسان يدفع سبعة آلاف أو عشرة آلاف في العام بأكمله، ولا يحدث معه شيء ضاع المبلغ، فالتأمين ليس فيه عِوَض، فيه نفع لجهة على حساب المُؤمِّن على حساب جهة أخرى، فأي شيء تجدونه مُحرّماً في الإسلام لأنه نفعٌ مبنيٌّ على ضرر، الغش مُحرّم، لأن الذي اشترى البضاعة توهمها جيدةً فدفع ثمناً لا يوازي سلعته، والذي باعها أخذ مبلغاً أكبر مما دفع للبائع من بضاعة فوق الربح، إذاً كقاعدة عامة: أيُّ ربحٍ يُبنى على خسارة فهذا دخْلٌ مُحرّم، وأي ربح يُبنى على منفعة متبادلة فهذا دخْل حلال، فلذلك الكذب في البيع والشراء قد يوهِم بمستوى في البضاعة هي ليست فيه، التدليس مثل الكذب، الاحتكار؛ تُجمَّع البضائع في أيدٍ قليلة، ويُرفَع سعرها، فمن دفع ثمن هذه البضاعة لم يدفع ثمنها بل دفع ثمن احتكارها، صار الثمن مضاعفاً، فما من معصية في كسب المال إلا أساسها منفعة بُنيت على ضرر، ربح بُني على خسارة، إنسان كسِبَ، وإنسان خسِرَ.

تقسيم الله تعالى البشر إلى صنفين:


 الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ الباطل الشيء الزائل، المال يزول ويبقى العقاب، والذي انتفع نفْعُه بالمال يزول، ويبقى الإثم والعقاب في الآخرة، الباطل كما قلت الشيء الزائل الذي لا يصمُد، لذلك قال تعالى في تقسيم البشر إلى صنفين: 

﴿  فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)﴾

[  سورة الليل ]

 صدَّق بأنه مخلوق للجنة، استناداً لهذا التصديق اتقى أن يعصى الله، واستناداً لهذا التصديق بنى حياته على مطلق العطاء، فأعطى من وقته، وماله، وعلمه، وخبرته، ومن عضلاته، ومن كل طاقاته، لأنه آمن بالآخرة، لأنه تعاملَ مع كريم، لأنه تاجرَ مع الله، أعطى واتقى أن يعصيه، انطلاقاً من أنه صدق بالحسنى، فهذا رد الإله له: 

﴿  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8)﴾

[  سورة الليل ]

 بنى حياته على الأخذ، واستغنى عن طاعة الله، لأنه ما صدّق بالجنة، وأنا أقول أحياناً: ما ترون من جشع الناس، وتكالُبِهم على المال، وحرصهم على كسب المال بأية طريقة شيءٌ طبيعي جداً إذا كفروا بالآخرة، وإذا آمنوا بالدنيا، الدنيا فيها شهوات، والمال مادة الشهوات، فإن أردت أن تستمتع إلى أقصى درجة فلا بد لك من المال، وربما لا تكفي قدراتك، ومنهج الله أن تكسب المال الكثير، إذاً لا بد من الكذب، والتدليس، والاحتكار، والغش، والنفاق، وما إلى ذلك.
أول شرط لصحة البيع أن يكون هناك تراض :
 قال: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ﴾ ثمة معنى مخالِف؛ بالحق لا مانع، ربحُ التاجر مشروع، ربح المزارع مشروع، ربح الصانع مشروع، ربح من يؤدي خدمات للأمة مشروع، طبيب يتقاضى تعويضاً عن عنايته بالمريض، المحامي يتقاضى تعويضاً عن أتعابه، المهندس، المعلم، أية حِرْفة، تقديم خدمة وأخْذ أجرة أو تعويض، قال: ﴿إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمۡۚ﴾ التجارة كأن الله سبحانه وتعالى ذكرَ من بين أنواع المكاسب مكاسب الزراعة، والصناعة، والتجارة، التجارة لأنها الحلقة الوسطى بين عدة حلقات، نحن عندنا إنتاج، وعندنا استهلاك، من هو الوسيط بين المنتج والمستهلك؟ التاجر، المعامل تنتج، والأشخاص يستهلكون هذه البضائع، من الذي يشتري من المعامل ويبيع المستهلِكين؟ التاجر، المزارع تنتج البرتقال، والحمضيات، والتفاح، والزيتون، والبشر يستهلكون، فمن الذي يتوسط بين المنتج الزراعي والمستهلك البشري؟ التاجر، أحياناً ثمة مكاتب خدمات، تحتاج أنت إلى خدمة معينة، يكون المكتب وسيطاً بين أصحاب هذه الخدمات وبين من يحتاجون هذه الخدمات، فالله سبحانه وتعالى قال: ﴿إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمۡۚ﴾ لو أن الغِشّ كُشِف للمشتري هل يرضى؟ لو أن الاحتكار كُشِف للمستهلك هل يرضى؟ أن يدفع أربعة أضعاف ثمن الحاجة، لأن الذي يبيعه إياها محتكِرٌ لها، لا يرضى، بعض الناس احتالوا على الشرع، يعطيه مركبة، يقول له: انظر إلى المركبة، وقد يكون فيها عيوب خفيّة، ربما لا يعرفها، لو كُشِفت له هذه العيوب هل يرضى؟ لا يرضى، إذاً أول شرط لصحة البيع أن يكون هناك تراض، لذلك عقود الإذعان باطلة، أنت مضطر فيُرفَع السعر عليك أضعافاً مضاعفة، لأنك مضطر، لا خيار لك، حالات المرض أحياناً، مرض خطير، بعد أن بدأت العملية يُطالب ذَوو المريض بمبلغ يفوق طاقتهم، أو يموت المريض، هذا عقد إذعان، شراء السلاح في أثناء الحروب، كلها عقود إذعان كلها، قد يرتفع السعر إلى مئة ضعف.

لا يكون التراضي في البيع والشراء إلا بالإيجاب والقبول:


 قال: ﴿إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمۡۚ﴾ لذلك التاجر الصدوق مع النبيين، ثمة شيء يلفت النظر، تاجر باع واشترى وكسب المال، واشترى بيتاً، وأكل، وشرب، وتزوج، ولبس، وأنت أيها الإنسان مع النبيين، الحقيقة مع النبيين لأن أكبر دولة إسلامية الآن في جنوب شرق آسيا ما دخلها جندي واحد، دخلها التجار، وكانوا دعاة إلى الله، 250مليون في إندونيسيا مسلمون بسبب التجار المسلمين الذين دعوا إلى الله بطِيب معاملتهم.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمۡۚ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام استنبط من هذه الآية عشرات بل مئات الأحاديث، كيف يكون التراضي في البيع والشراء؟ بالإيجاب والقَبول، وكيف هناك خيار العَيب، وخيار الوقت، بحوث كثيرة جداً، هذه تُؤخَذ في كليات الشريعة في موضوعات فقه البيوع، إذاً: المسلمون يشكّلون وحدة، أموالهم للجميع.

3 ـ المال في الظاهر هو لك أما في الحقيقة فهو ملك جميع المسلمين: 

 هناك معنى ثالث: أنت معك مال، وهذا المال في الظاهر هو لك، أما في الحقيقة هو ملك جميع المسلمين، فإذا أسرفت في إنفاقه فأنت مُحاسَب عند الله، إذا أسرفت في المباحات، أو بذّرت في المعاصي فأنت مُحاسَب عند الله، يمكن -وأنا أعني ما أقول- لعقد قران أن يكلّف خمسة وثمانين مليوناً؟! ومئات الشباب يبحثون عن غرفة ليتزوجوا فيها، فمعنى: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم﴾ الكتلة النقدية التي بين أيدي المسلمين هي في الحقيقة مُلْك لكل المسلمين، فأنت لك أن تأكل، وأن تشرب، وأن ترتدي ثياباً، وأن تتزوج، وأن تنفق لكن بالمعقول. 

﴿ يَٰبَنِىٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍۢ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ(31)﴾

[  سورة الأعراف ]

 إذاً الإسراف مُحرَّم في المباحات، والتبذير مُحرَّم في المعاصي، كلمة ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم﴾ ، أي هذا المال ملك جميع المسلمين، لك أن تنفق منه بالمعروف، وليس لك أن تبذِّره في المعاصي، ولا أن تنفقه إسرافاً في المباحات، كما أنه ليس لك أن تضيِّعه، أو أن تُتلِفه، فإذا ضيعته وأنفقته في غير ما ينبغي حُجِر على تصرفاتك، لأنه مُلْك جميع المسلمين، هذا هو المعنى الثالث.

معانٍ عدة لـ (ولا تقتلوا أنفسكم):


 قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾

1 ـ حينما ينهي الإنسان حياته باختياره قنوطاً من رحمة الله فهذا مخلد في النا:

 حينما ينهي الإنسان حياته باختياره يأساً وقنوطاً من رحمة الله فهذا مُخلَّد في النار: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾

2 ـ لا تعمل عملاً ينتهي بقتل نفسك:

 وهناك معنى آخر، أي لا تعمل عملاً ينتهي بقتل نفسك، فحينما يرتكب الإنسان معاصي كثيرة جداً يُهلِك نفسه في الدنيا والآخرة دون أن يشعر. 
﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمًا﴾ واللهُ عز وجل يعجب أحياناً، قال تعالى: 

﴿ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ ۚ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ (175)﴾

[ سورة البقرة ]

 عندما يعتدي الإنسان على الآخرين يعرِّض نفسه لعقاب الله عز وجل، إذاً سوف يذوق النار، ﴿فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ﴾ .
﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾ طبعاً هذا الموضوع لا يتعلق بما نسمعه من أناس أرادوا أن يهزوا كِيان العدو، هذا موضوع ثانٍ، لا علاقة له بهذه الآية، إنسان يائس كافر بالله عز وجل، يَئِس من عطاء الله أنهى حياته كيداً بالقضاء والقدر، فهذا إنسان منتحر، ومصيره إلى النار: ﴿وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ﴾ 

إلقاء النفس إلى التهلكة في حالتين في حالة عدم الإنفاق وفي حالة إنفاق المال كله:


 هناك آية ينبغي أن نذكرها الآن يقول الله عز وجل: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَٰعَةٌ ۗ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ(254)﴾

[  سورة البقرة ]

﴿ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوٓاْ ۛ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ(195)﴾

[  سورة البقرة ]

 قال بعض المفسرين: أنفِق بعضاً من مالِك ولا تنفق كل مالِك، لك أولاد، ولك زوجة، وقد تكون الظروف صعبة، فإذا أنفقت كل مالك كأنك ألقيتَ بنفسك إلى التهلُكة، المعنى الآخر: أنفِق من مالك، فإن لم تنفق فقد ألقيت بنفسك إلى التهلُكة، إذاً إلقاء النفس إلى التهلكة في حالتين حادتين؛ في حالة عدم الإنفاق، وفي حالة إنفاق المال كله، والإسلام وسط متوازن، ﴿وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلَا تُسْرِفُوٓاْ﴾ ، فأنت هالكٌ إن أنفقت كل مالك، وأنت هالك إن لم تنفق من مالك، لأنك إن لم تنفق من مالك سوف تهلك في الدنيا وفي الآخرة. 
﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمًا﴾ هذا الذي يعيش ساعته، يعيش وقته، ينتهز كل فرص اللّذّات دون أن يفكر في آخرته هذا إنسان يُهلِك نفسه، والله سبحانه وتعالى رحيم به، خلقك في الدنيا كي تسعد، والدليل: 

﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)﴾

[ سورة هود ]


النبي عليه الصلاة والسلام علمنا عِظَم حقوق العباد:


 قال: 

﴿ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارًاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا(30)﴾

[ سورة النساء ]

 أنت إذا أكلت أموال الناس بالباطل،

(( مَن أخَذَ أمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عنْه، ومَن أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ اللَّهُ. ))

[ صحيح البخاري ]

بالمناسبة أيها الإخوة، حقوق العباد مبنية على المُشاحَحة، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة، أنا لا أصدق وربما لا تصدقون أنّ أعظم عمل على الإطلاق أن تقدّم نفسك في سبيل الله، قال الشاعر:

يجودُ بالنَّفْسِ إنْ ضَنَّ الجَوادُ بها     والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجودِ

[ مسلم بن الوليد ]

ومع ذلك إذا كان عليك دَين فالدَّين لا يُغفَر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( يُغفَرُ للشهيدِ كلُّ ذنبٍ إلا الدَّينَ ))

[ صحيح مسلم ]

وقد علّمنا النبي عليه الصلاة والسلام عِظَم حقوق العباد، فكان إذا مات أحد أصحابه الذين جاهدوا معه، ودُعِي إلى الصلاة عليه يقول: أعليه دَين؟ فإن قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم، ولا يصلي عليه، فإن قال أحدهم: يا رسول الله عليّ دَينه، عندئذٍ يصلي عليه، ومرة سأل فقيل: عليه دَين، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أحد أصحابه: عليَّ دَينه يا رسول الله، فصلى عليه، وفي اليوم التالي سأله: أأدَّيت الدَّين؟ قال: لا، في اليوم الثالث سأله: أدَّيت الدَّين؟ قال: لا، في اليوم الرابع سأله: أأدَّيت الدَّين؟ قال: نعم، قال: الآن ابترد جلده"، ابتراد جلد الميت لم يكن بالتعهُّد بل بالأداء، لذلك الإنسان ممنوع أن يستقرِض ما لا يستطيع أن يؤديه، إن أردت أن تستقرض ينبغي أن تفكر في الأداء: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا﴾ يأكل أموال الناس بالباطل ويغشهم، يأخذ أموالهم قماراً، أو يأخذها كذباً، أو غشاً، أو تدليساً، أو احتكاراً، أو احتيالاً، أو بضغط شديد، كل شيء أُخِذ بسيف الحياء فهو حرام.

قوانين العناية الإلهية:


 قال: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمًا*وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا فَسَوۡفَ﴾ هنا قف عند سوف، قد تكسِب المال الحرام إلى حين، والعقاب لا يأتي بعد دقيقة، ولا بعد ساعة، ولا بعد شهر، قد تستمتع بالمال سنوات طويلة، وهو مال حرام، ثم فجأة يُسحَب البِساط من تحت رجليك، وتقع في قبضة الله عز وجل، لو جاء العقاب عقِبَ المعصية لأُلغِيَ الاختيار، لو جاء العطاء عقب الطاعة لأُلغِيَ الاختيار، قل للناس جميعاً: ادفع مئة، وخذ ألفاً، بحسب الآية ترَ طوابير لا تنتهي، وكلهم غير مؤمنين بالله، لكن أنت مُخيَّر، قد تنفق من مالك ولا تأخذ شيئاً إلا بعد حين، لما قال الله عز وجل: 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦٓ إِن شَآءَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(28)﴾

[  سورة التوبة ]

 ثمة قوانين اقتصادية، ما دام المنع من دخول مكة سارياً معنى ذلك أنه لا سياحة، وتهديد بالفقر. 
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ أي سوف تفتقرون، قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ﴾ هناك قوانين اقتصادية واضحة، إنسان عنده مطعم فيه خمر، وفي أماكن معينة الخمر مطلوب في المطاعم، فيكثر زبائن هذا المطعم، ولو أنه تاب إلى الله توبة نصوحة، وألغى بيع الخمر، فلا بد أن تقلّ غلّته إلى الربع، أو إلى العُشْر، هذا ثمن قراره البطولي، ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً﴾ وكل إنسان يتخذ قراراً بطوليّاً يُدفِّعه الله ثمنه كي يرقى يوم القيامة، لكن بعد أن يتخذ هذا القرار البطولي، ويدفع ثمنه، ويصبر على دفع الثمن، ولا يتشاءم، وهو فرِحٌ بطاعة الله، الآن الله عز وجل يُدخِله تحت منظومة قوانين اسمها: قوانين العناية الإلهية، عندها يعود عليه الضِّيق وِسعةً والخسارة ربحاً.

من أطاع الله و لم يعبأ بمصالحه عادت عليه الدنيا أضعافاً مضاعفة:


 قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ﴾ (سوف) هي للامتحان، فيمكن أن تطيع الله وتخسر إلى حين، فإذا علم الله منك صبراً ورضى وطاعةً الآن يدخلك في منظومة قوانين أخرى، اسمها قوانين العناية الإلهية، عندئذٍ تربح، ربحت طاعتك لله، وربحت الدنيا، لذلك من آثر النص الشرعي على مصالحه ربح طاعته لله، وربح الدنيا، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً، أرجو أن أكون قد وضّحت ذلك الكلام الدقيق، هناك قوانين مستنبطة من حركة الحياة، وبشكل حسابي على الآلة الحاسبة إذا أقرضت قرضاً ربوياً، أقرضت مئة ألف بفائدة عشرين بالمئة، يأتيك مئة وعشرون ألفاً، وإذا أقرضت قرضاً حَسَناً يأتيك مئة ألف، ومع التضخم النقدي ثمانون ألفاً، على الحسابات القرض الحَسَن خاسر، والقرض الربوي رابح، أما على قوانين العناية الإلهية فـ: 

﴿ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)﴾

[  سورة البقرة ]

 الذي فعلته صدقةً يربو المال بطريقة عجيبة لا يعلمها إلا الله، حينما يعلم الله منك الطاعة تطيعه ولو خسرت الدنيا، هذا موقفك، وسوف تنال طاعتي والدنيا، الآن لا تبالي، تعصيه من أجل الدنيا سوف تخسر الدنيا، وتخسر طاعتي، كلام دقيق، بحسب حركة الحياة هناك أوامر تبدو لك أنها تضرّك، وهناك أفعال لا ترضي الله تبدو لك وكأنها تنفعك، ولكن العاقبة للمتقين، في النهاية الذي تفعله طاعة لله ولا تعبأ بمصالحك تعود عليك الدنيا أضعافاً مضاعفة، هذه حقيقة. 

الخيارات التي بيد القدرة الإلهية لا نهاية لها:


 أيها الإخوة: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارًاۚ﴾ لعلي أُوفَّق في كلمة: الخيارات التي بيد القدرة الإلهية لا نهاية لها، ممكن أن تحقق ربحاً بالملايين وتخسر صحتك، القلب بيده، والشريان بيده، وخثرة الدماغ بيده، كل شيء بيده، فأنت من جهة حققت أموالاً طائلة: ﴿عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا﴾ فسلبَك الله الصحة التي تستمتع بها بالمال، كان لي طالب في الحادي عشر، حدثني عن خاله، خاله صاحب دار سينما، بنى ربحه على إفساد أخلاق الشباب، ودار سينما من الدرجة الدنيا، أفلام كلها فاضحة، هذه القصة عام 1965، جمّع من خمسة إلى ستة ملايين، ما يعادل خمسمئة مليون الآن، أُصيب بمرض عُضَال في ريعان الشباب، فيما يقارب الخامسة والثلاثين أو الأربعين عاماً، قال لي: دخلت عليه وهو يبكي، قال له: أنا جمّعت هذا المال كي أستمتع به في خريف عمري، هذه المنيّة عاجلتني قبل أن أستمتع بهذا المال.
 إخواننا الكرام، حينما تنصاع لأمر الله، ولا تعبأ بمصالحك يُخضِعك الله عز وجل لقانون لا تعرفه أنت، هو قانون العناية الإلهية، والله أعرف أناساً بذلوا أموالاً كثيرة في طاعة الله، قال لي أحدهم: مرة صفقة كبيرة جداً شعرت بانقباض لا مُبرّر له، لم أفهم لماذا كنت منقَبِضاً، لما اشتد انقباض صدره ألغى الصفقة، هذه الصفقة لو أخذها لدفع كل ما يملك، صرف الله عنه الخسارة عن طريق ضِيق القلب، أنت حينما تأتمر بما أمر الله، وتنتهي عما عنه نهى الآن أخضعك الله لقانون العناية الإلهية. 

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

 يشرح صدرك لمَا هو خير لك، ويقبض صدرك لما هو شرّ لك أحياناً، إذاً: ﴿وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ عُدۡوَٰنًا وَظُلۡمًا فَسَوۡفَ نُصۡلِيهِ نَارًاۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا﴾ .

العبرة أن تأتي النتائج متوافقة مع المقدمات:


 دائماً العبرة لا أن يكون الناس جميعاً مؤمنين، ولكن العبرة أن تأتي النتائج متوافقة مع المقدمات. 

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾

[  سورة الكهف  ]

 من شاء فليكسِب المال الحلال، ومن شاء فليكسِب المال الحرام، والآن أيها الإخوة إنسان جمّع من القمار ثمانية ملايين، وهو على فراش الموت طلب إنساناً يعمل في الدعوة، قال له: ماذا أفعل؟ قال له: والله لو أنفقت المبلغ كله لا تنجو من عذاب الله، العبرة لخريف العمر، العبرة لساعة المغادرة، ماذا تفعل؟ فكسْبُ المال الحرام مُحبَّب للناس، ولكن لو فكروا في مصيرهم، قد يخسر حياته، ولا يستمتع بماله، من هنا قال عليه الصلاة والسلام: أندم الناس غنياً دخل ورثة بماله الجنة، كسبوه حلالاً ودخل هو بماله النار. 
﴿وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرًا﴾ في درس قادم إن شاء الله نتابع شرح الآية الكريمة: 

﴿ إِن تَجۡتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنۡهَوۡنَ عَنۡهُ نُكَفِّرۡ عَنكُمۡ سَيِّـَٔاتِكُمۡ وَنُدۡخِلۡكُم مُّدۡخَلًا كَرِيمًا(31)﴾

[ سورة النساء ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور